وكنت حينها عنصرا صغيرا من أفراد الحرس، ومضى كل في طريقه بسبب تقلبات السياسة ولكننا لم نذهب بعيدا في الجانب الفكري وإنما لأسباب تتعلق بالمعيشة فقط، حتى التقيته مرة أخرى مديرا لمكتب الخطوط الجوية العراقية في القاهرة في سبعينات القرن الماضي، ولاحظت أن الأيام لم تترك عليه تأثيراتها فقد كان ذلك الموظف العراقي المعظماوي الحريص على المال العام، وشاهدت كيف كان يمنع أي وزن إضافي من دون تحمل تكاليف الشحن من المسافر حتى لكبار الموظفين الرسميين، كانت تلك إشارة وعلامة إيجابية مهمة عندي على أن أبا محمد حافظ على ما كان البعث يرفعه من شعارات صيانة الأمانة والحرص على أموال الشعب متمثلة بالمال العام.
ودار الزمن دورة أخرى، وفي مطلع أيلول عام 1991 تم نقلنا نحن الأسرى وتجميعنا في معسكر الأسرى "المشاغبين" بالمقياس الإيراني المعروف بـ "قمصر كاشان" أو خرابة ناصر شاه، في المحافظة المركزية في إيران، من معسكر صخرة الموت "سنك بست" بعد أن أمضينا فيه أكثر من ست سنوات، في معسكرنا الجديد وجدت الرجل كما أعرفه هو هو لم تترك السنون على ما في رأسه من أفكار وقناعات.
بعد زمن آخر ربما عقد من الزمن عدت أنا وتركته ورائي في تلك الخرابة، سألت عن أسرته فعلمت بمجرد عودتي أن ولده محمد الوحيد قد رحل إلى الرفيق الأعلى قبل الأوان رحمه الله، تساءلت ترى كيف سيتعامل الرجل عطا محي الدين مع هذه الكارثة؟ واسترجعت ما أعرفه عنه فهو طود شامخ، ولن يتصدع بناؤه لحدث جلل حتى إذا كان بمثل فقدوان الولد الوحيد.
أخيرا وردني الخبر الحزين برحيل الصديق الكبير عطا محي الدين وليلتحق بولده ومن سبقه، وهو لم تكتحل عيناه برؤية بغداد التي أحبها بكل جوارحه، كان عندما نتمشى أو نتحدث عن ذكريات الحرية يذكرها كشاعر يتغزل بمحبوبته، تركها وكان يتمنى أن يراها وهي ترفل بأجواء الحرية والسعادة.
تحية لك أخي العزير أبا محمد
تحية لك في رعاية ملك جبار عادل لا ظلم عنده
ولك الجنة بأعلى فردوسها
ولعن الله من ظلمك
ونم أبا محمد قرير العين فأنت في ضيافة الرحمن وعلى باب من لا يوصد بابه بوجه ضيف أو سائل
وإنا لله وإنا إليه راجعون
نزار السامرائي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق